فائض الإسلامية- جدل الثورة السورية بين الهوس الغربي والاستقطاب العربي

بينما يراقب الغرب عن كثب الحكام الجدد في سوريا – كما ورد في تقرير "وول ستريت جورنال" – انصرف قسم كبير من النخب العربية ومساحات واسعة من نقاشات وسائل التواصل الاجتماعي إلى التركيز على الزلزال السوري، واختزاله في شخصية القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، المعروف بأبو محمد الجولاني. يتمحور الجدل حول تحركات الجولاني، تصريحاته، واجتماعاته، والتساؤل عما إذا كان قد تغير، أو أن تصريحاته مجرد تكتيك.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تحول إلى ساحة لاستحضار الخلافات القديمة بين مختلف الأطراف: الإسلاميين، اليساريين، القوميين، والليبراليين. عادت إلى السطح الاستقطابات التي أعقبت الربيع العربي، والتي كنا نظن أننا تجاوزناها، أو على الأقل، كنا نأمل أن التطورات الجديدة تستدعي إعادة هيكلة هذه الاستقطابات، كما أشرت إليه سابقًا.
لكن الواقع العربي، الذي تخلى فيه الكثير منا عن الفعل الحقيقي وانشغلوا بالجدال العقيم. تراجعت قدرتنا على التأثير في صنع السياسات العامة، مما أدى إلى تفاقم الاستقطاب. افتقرت نخبنا إلى التجديد الفكري، فاستحضرت قضايا الماضي دون تبصر بالتحولات الجديدة.
تلاقت رغبة البعض في إذكاء الاستقطاب مع السعي للاستحواذ على المكاسب وضمان الاستمرار في السلطة، أو على الأقل، صرف الانتباه عن طبيعة الحكم ونمط توزيع الثروة، وهما مسألتان تعتبران من أهم اهتمامات الجمهور العربي، وفقًا لاستطلاعات الرأي المتعددة.
غالبًا ما أتوقف متأملًا أمام هذه الظواهر، على أمل أن تساعدني في فهم العلاقة بين ظواهر تبدو متباعدة، أو في صياغة مفاهيم تساعدنا على التحليل أو تكون أكثر تفسيرًا.
في العقد الأول من الألفية، طرحت مفهوم "فائض التدين" للتعبير عن تصاعد مظاهر التدين التي اتخذت أشكالًا متنوعة، ولكنها اتفقت في تحولها إلى منظور شامل لتقييم الأفعال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحديد نظرتنا للعالم والآخر المختلف عنا في نمط تدينه أو عقيدته.
واليوم، أقدم مفهوم "فائض الإسلامية"، الذي أراه نموذجًا تفسيريًا لفهم جزء من جدالنا العام حول الثورة السورية.
يكمن الجذر العميق لفائض الإسلامية في الهوس الغربي بالإسلام، الذي يخلق نقاطًا عمياء في رؤيتنا. وقد أفرز هذا الفائض نوعًا معينًا من الجدل العام يمكن وصفه بأنه "سياسة الكلمات".
الهوس الغربي بالإسلام
هناك افتتان غربي بالإسلام يخلق زاوية مظلمة في تحليل بعض التطورات المصيرية الراهنة في منطقة الشرق الأوسط الكبير (حسب تعبيرهم، والذي يمتد حتى أفغانستان ويشمل منطقتنا). تزداد حدة هذه النظرة الجزئية بسبب الاعتقاد بتهديد الإسلام للديمقراطية الغربية، والنظام الدولي الليبرالي، وحقوق المرأة، ومكافحة التطرف العنيف.
قام دبلوماسيون من واشنطن والعواصم الأوروبية بزيارات أولية إلى دمشق هذا الأسبوع، بهدف تقييم مدى إمكانية الوثوق بالحكومة الانتقالية الناشئة التي تشكلها هيئة تحرير الشام.
بالتأكيد، كانت قضايا الديمقراطية، والحكم الشامل لكل مكونات المجتمع السوري، وحقوق النساء والأقليات، في صميم هذه المناقشات. هذا أمر منطقي وضروري، ولكن السؤال الجوهري هو: هل يحق للغربيين التساؤل عن هذه الأمور بعد الأحداث المأساوية في غزة، والممارسات الإقصائية التي يشهدونها في بلدانهم تحت تأثير صعود اليمين المتطرف؟
يبدو أن هناك نزعة غربية للمبالغة في تقدير دور الإسلام كمحرك أساسي لكافة المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية في الشرق الأوسط. ففي عصر صعود الترامبية في أمريكا والشعبوية القومية في أوروبا، ترى أغلبية واسعة أن الإسلام يمثل مصدرًا لعدم الاستقرار وعلامة مميزة للهوية والصراع في المنطقة، وفي كل القضايا الإقليمية تقريبًا، بدءًا من التحول السياسي في تركيا في عهد أردوغان، أو الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين في مصر، أو صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وصولًا إلى الصراع الطائفي السني الشيعي، وأخيرًا وليس آخرًا، الأحداث الجارية في سوريا.
ينظر أغلب الغربيين إلى المنطقة من منظور إسلامي، ويصدرون أحكامًا متشائمة للغاية، معتبرين أن الإسلام لا يتفق مع الديمقراطية، والعلمانية، والحداثة، والمساواة بين الجنسين، والعديد من القيم التقدمية الأخرى التي يتبناها الغرب. كما يُنظر إليه على أنه دين تسلطي، وغير متسامح، وعنيف، وميالٍ للقتال. نادرًا ما تُعتبر هذه التعميمات الواسعة مجرد تأكيدات سطحية تستند إلى الحتمية الدينية والثقافية.
الملاحظ أن الصور النمطية الاستشراقية التي تصور الإسلام كدين و"طريقة حياة" قد استُبدلت بالرأي القائل بأن الإسلام هو المشكلة. هذه الرؤية تحمل الدين والعنف الديني المسؤولية عن معظم المشاكل الأمنية، وتقريبًا جميع التحديات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في الدول الإسلامية.
تكمن المشكلة في هذه التصورات في أنها تستند إلى الحتمية الثقافية والدينية، وترى أن مستقبل المسلمين هو تكرار للماضي الغربي، وأن عليهم أن يسلكوا الدرب الذي سلكه الغربيون من قبل. وإذا كان الإسلام هو المشكلة الرئيسية، فلماذا لا يقدم الحل الرئيسي أيضًا؟
يتسم هذا النوع من الحتمية الإسلامية بالجمود والثبات، على الرغم من أن التغيير هو سمة هذا العصر. ووفقًا لهذه الرؤية، فإن إنقاذ الإسلام من نفسه يتطلب ظهور مارتن لوثر مسلم يقوم بإصلاح وتحديث وتعديل الإسلام على غرار الصدام الأوروبي في القرن السادس عشر بين البروتستانتية والكنيسة الكاثوليكية.
إن الافتراض بأن الإسلام هو المصدر الرئيسي للهوية السياسية، وبالتالي السبب الرئيسي لجميع المشاكل في الشرق الأوسط، يؤدي إلى تبني استراتيجيات مضللة في مجالات حساسة مثل مكافحة التطرف، أو تعزيز الديمقراطية، أو الدفاع عن حقوق النساء والأقليات.
يغيب عن هذا المنظور الفهم العميق للسياقات والبنى التي تنتج الممارسات في هذه القضايا. صحيح أن التطرف العنيف والأنظمة الاستبدادية المختلة هي مشاكل حقيقية في العالم الإسلامي، ولكن هذه الحقائق السياسية تحتاج إلى تحليل موضوعي دون اللجوء المستمر إلى الحتمية الثقافية والدينية الكسولة.
يشوه الهوس بالإسلام الحقائق على الأرض، ويخلق وهمًا بصريًا كبيرًا يمنعنا من رؤية الواقع كما هو، وهو الواقع الذي يتطلب تحليلًا سياقيًا تفصيليًا. علاوة على ذلك، فإن هذا الوهم يغذي التوتر والاستياء والاستقطاب المتزايد بين الغرب والعالم الإسلامي، وإذا لم يتم التصدي له، فإنه سيؤدي إلى تفاقم الديناميكيات القوية بالفعل لظاهرة الإسلاموفوبيا.
الهوس بالإسلامية
إذا كان الهوس الغربي بالإسلام يخلق نقاطًا عمياء في التحليل، ولا يسمح بالبحث في سياقات الظواهر، ويعمق من سياسات الهوية وصراعاتها، فإن الهوس بالإسلامية يؤدي إلى التغطية – على حد تعبير إدوارد سعيد في كتابه الهام "تغطية الإسلام" – على العديد من القضايا والموضوعات. معه نصبح أمام إخفاء وتغطية كاملة شاملة، ولكن على نحو مضلل؛ لأنها تمنحنا شعورًا زائفًا بالفهم دون أن تعلمنا بقدر كاف، ونصبح بين تغطية الظواهر والتغطية عليها.
هل توقف أحد أمام منظر الدمار في مخيم اليرموك في دمشق وقارنه بما يحدث في غزة، وشرح لنا لماذا دولتان، يُفترض أن إحداهما محسوبة على محور المقاومة، والأخرى يُفترض أنها دولة وطنية، تحارب الدولة الأخرى التي هي محتلة وعنصرية واستعمارية، وتبيد شعبًا يبحث عن حقوقه؟ هل يمكن لأحد أن يساعدنا في تحليل كيف تنتج دول – لا أقول من طبيعة مختلفة بل من طبيعة واحدة – ظواهر بهذا الشكل؟
إن الهوس بالإسلامية، بمعنى اختزال الظواهر المركبة وتبسيطها في البحث عن مدى حضور الإسلامية فيها، وعلاقتها بالإسلاميين أو علاقة الإسلاميين بها، يستند إلى أربعة أسس:
1- استثنائية الظاهرة الإسلامية: هنا تكمن المفارقة، حيث يتفق الإسلاميون ومنتقدوهم على حد سواء على تقديمها باعتبارها استثناء – وإن اختلفت الدوافع بينهما. فالأتباع يريدون أن يضفوا عليها نوعًا من القداسة، في خلط واضح بين النص المُنزَّل والتعبير عنه خطابًا وممارسة. أما المعارضون، فقد أرادوا الإقصاء بالتشكيك في قدرة الإسلاميين على الاندماج في النظام السياسي؛ سبيلًا لحرمانهم من الوجود.
ما أود أن أشير إليه هو نهاية "الاستثنائية الإسلامية" هذه. فالانطباع الرئيسي الذي تخرج به بعد الانتهاء من متابعة الأداء السياسي للإسلاميين – وهيئة تحرير الشام جزء منهم – في الربيع العربي – خاصة في موجته الثانية عام 2019، بعد أن أصبح بعض أطرافهم في الحكم أو مساندين له، هو تطبيع هذه الحركات مع الواقع بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات سلبية وإيجابية، مما يمكن معه القول بانتهاء «الاستثنائية الإسلامية» التي حاول – كما قدمت – أن يصمها بها تابعوها ومعارضوها على حد سواء.
الإسلاميون في السلطة – كما في المعارضة – يتصرفون مثل الفواعل السياسية الأخرى حين تحركهم إدراكاتهم لمصالحهم الذاتية التي يسعون إلى تحقيقها، ويبنون تحالفاتهم ليس وفق أسس أيديولوجية.
كان التنافس فيما بينهم أشد وطأة من تنافسهم مع غيرهم. والأهم أن الربيع العربي بموجتيه أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنهم لا يملكون مشروعًا فارقًا للسلطة، بل يتصرفون كأي حاكم عربي: الانتهازية السياسية التي طبعت تجربة وممارسة الكثير منهم في الحكم وخارجه، وتقلبات مواقفهم وتحالفاتهم، وتعدد انتقالاتهم من خندق إلى آخر، وتفشي مظاهر الفساد في بعض أوساطهم، كل هذا أسقط عنهم لباس «التقوى»، وأزاح من فوق رؤوس قادتهم «هالة القداسة».
2- الحتمية الثقافية والاجتماعية: فالإسلاميون في كل مكان يتصرفون بالطريقة نفسها، أو على حد تعبير البعض فإن «الطبع يغلب التطبع». وهم كيان واحد لا توجد فروق بينهم ولا صراعات وتوترات داخلهم، ولا تجري عليهم ما يجري على غيرهم من تطورات وتغيرات وتحولات. وإن كانت، فلا بحث عن السياقات والأسباب التي تدفع إلى ذلك، وإنما هي – أي التغيرات – تقية أو انتهازية سياسية أو تغيير تكتيكي. يعمق من ذلك غياب المقارنة بينهم وبين غيرهم من الفواعل السياسية والاجتماعية الأخرى التي بها نكتشف أوجه التشابه والاختلاف فيما بينهم.
3- الاختزالية المفرطة الممتزجة بنبرات توكيدية: فالواقع المعقد يتم تبسيطه بما يناسب المزاج العام، ويجري تقديم حلول شاملة لمشاكل تفصيلية معقدة. وثمة إجماع على استخدام كباش فداء تُلقى عليهم تبعات ما لا يروقنا في الواقع.
تتسم المناقشة بالتعميم وفق منطق الصناديق المغلقة والتصنيفات الجاهزة والصور النمطية دون البحث في التفاصيل ورسم الخرائط. وغياب المعلومات الدقيقة، وبناء علاقات سببية بين ظواهر من طبائع مختلفة، مع صياغة الأسئلة الخاطئة من قبيل: «هل سيكون حكم سوريا مثل أفغانستان/ طالبان؟» بدلًا من الحديث عن التداعيات الجيوستراتيجية لما جرى في سوريا، وموقع الإسلاميين منها وفيها.
4- غياب أي خطاب للنقد الذاتي: فالكل يلقي بالتبعة والمسؤولية على الآخر دون حديث عن مساهمته فيما آلت إليه الوقائع والأحداث. ففريق يرى أن الإخوان هم المسؤولون في تونس عن عودة الاستبداد. لو عدنا إلى ما جرى وتتبعنا مسار خطايا «النهضة» ومناوراتها في العشرية الأخيرة، فسنصل إلى أن «الانقلاب على المسار الدستوري والديمقراطي» صُنع بأيدٍ إخوانية. وأن تونس تجني ما زرعه إخوان تونس، كما جنى المصريون ما زرعه إخوان مصر، وأن المشهد السوري رأيناه من قبل في فيلم سابق للإسلاميين.
في المقابل، يرى الفريق الآخر أن العلمانيين – هكذا كيانًا واحدًا دون تمييز بينهم – هم المسؤولون عن استدعاء الجيوش وعودة الدولة العميقة لتحكم وتتحكم ولتنقلب على المسار الديمقراطي. وهم مرشحون في سوريا لقيادة الثورة المضادة التي بدأت أولى حلقاتها في تظاهراتهم أواخر الأسبوع الماضي في ساحة الأمويين.
للمفارقة، نجد بحثًا غربيًا في سوريا عن المصالح، رغم تصنيف الجولاني وهيئته على قوائم الإرهاب. تبحث هذه القوى عن التزامات بالتخلص من الأسلحة الكيماوية المتبقية من حكم الرئيس السابق بشار الأسد الاستبدادي، وحماية النساء والأقليات، ومحاربة المتطرفين مثل تنظيم الدولة الإسلامية الذي قد يزدهر في ظل الفراغ في السلطة في سوريا.
كما تريد هذه القوى إعادة بعض الملايين من اللاجئين السوريين الذين فروا من الحرب. لا تريد الدول الغربية أن تقع الحكومة السورية الجديدة تحت سيطرة قوى أخرى لها مصالح هناك مثل روسيا وإيران.
هكذا نرى أن الحكومات الغربية مشغولة بتحقيق مصالحها وتغلفها بخطاب الحقوق، بينما انشغلنا نحن بخطابات الهوية والثقافة.
سياسة الكلمات
إن الهوس بالإسلامية قد أفرز نمطًا جديدًا من العلاقات أطلق عليه توماس فرانك وإدوارد ويسباند اسم «سياسة الكلمات»، كما أوردها إدوارد سعيد في تحليله لتغطية الغرب للإسلام.
تكوّن المماحكات، والجدالات المتواصلة بين المؤيدين للإسلامية والمعارضين لها، والتحديات وردود الأفعال، وفتح مساحات خطابية معينة وإغلاق أخرى، ما يسمى بسياسة الكلمات. من خلال هذه السياسة، يسعى كل طرف إلى خلق ظروف معينة، وتبرير الأفعال والإجراءات، وإعاقة الخيارات، وممارسة الضغط على الطرف الآخر لتبني بدائل محددة.
الأهم من ذلك أن سياسة الكلمات تؤدي إلى إعادة إنتاج نفس الكلمات والقضايا في قالب جديد، لتصبح اللغة فارغة لا تعبر عن الحقائق كما هي، بل تجردها من واقعيتها وتحولها إلى سديم من المعاني الهائمة. وذلك على الرغم من أن حاجة الناس أصبحت ملحة إلى لغة واضحة ومحددة، وإلى ألفاظ دقيقة المعاني؛ حتى لا تتصادم المفاهيم ويتحول التعبير عن قضايا الناس وهمومهم إلى رطانة لا يعرفها إلا القليل أو لا يكاد يعرفها أحد.
لولا هذا الاستخدام الخاطئ والبعيد عن حقيقة الخطاب، لما تفاقمت الخلافات حول القضايا المتفق عليها لدى الجميع.
قبيل وصول الوفد الأميركي إلى دمشق، اندلعت مظاهرات في ساحة الأمويين تطالب بالدولة العلمانية، في وقت اختفت فيه الدولة السورية عن الوجود تمامًا.
تؤدي سياسة الكلمات إلى عدد من الظواهر المتشابكة، وأهمها:
1- الاستقطاب حول قضايا لا علاقة لها بأولويات الناس: هذا هو الانفصال الذي جرى في تونس على مدار العشرية الأخيرة بين الاحتجاج الاجتماعي المتصاعد والتعبير السياسي الذي تجسده المؤسسات السياسية المختلفة من أحزاب وبرلمان وطبقة سياسية، وهو المسار الذي يمكن أن تسلكه الثورة السورية شبرًا بشبر، مع إشكال أكبر وهو أن المؤسسات أصلًا تحتاج إلى بناء.
2- سياسة الكلمات المستندة إلى الهوس بالإسلامية تقوض الممارسة السياسية، حين تجعل منها طبيعة ثقافية تدور في أروقة النخب وبعيدة عن أية جذور اجتماعية، مما يسمح بالعصف بها في أية أزمة ومن قبل الأقوياء دائمًا.
هذا النوع من السياسة يغطي على سؤال يجب أن يكون التركيز عليه: كيف يمكن للديناميكيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية أن تغير الميول الثقافية والأيديولوجية؟
عندما تتفوق الإسلامية على السياسة، يكون كل شيء مختلفًا: فلا حديث عن العقود الاجتماعية غير الاجتماعية التي تمارسها شبكات الامتياز بتحالفاتها الإقليمية والدولية.
لا تتم إعادة هندسة الاستقطاب على أسس ديمقراطية، إلخ. وبدلًا من ذلك، تهيمن الحروب الثقافية على السياسة، ويصبح الصدام بين القيم الإسلامية وغيرها من القيم الأخرى هو الموضوع المفضل للجميع، على الرغم من أن الاستناد إلى الدين في الواقع ينتج قيمًا متعددة وفي أحيان كثيرة متضادة على الرغم من ديباجتها الدينية.
3- تغذي سياسة الكلمات سياسات الهوية التي تنشأ حين ينجذب كثير من الناس نحو مجموعات مألوفة ومتشابهة التفكير من أجل المجتمع والأمن، بما في ذلك الهويات العرقية والدينية والثقافية، وكذلك التجمعات حول المصالح والأسباب، مما يخلق تنافرًا بين الرؤى والأهداف والمعتقدات المتنافسة.
كما يتم إنشاء مزيج من الهويات العابرة للحدود، وانبعاث الولاءات الراسخة، وبيئة المعلومات المنعزلة، وتباين خطوط الصدع داخل الدول، وتقويض القومية المدنية، وزيادة التقلبات.
من الخطورة في سوريا اليوم أن تتمحور السياسة بشكل متزايد حول مسألة الهوية البدائية بدلًا من الانحيازات الاجتماعية/ الاقتصادية والتي يتم التعبير عنها في برامج سياسية.
من المفارقات أنه تم الحديث عن تاريخ أبو محمد الجولاني، في الوقت الذي اختفت – فيما أعلم – أية مناقشة للتوجه نحو الاقتصاد الحر في سوريا ما بعد الأسد، على الرغم من أن هذا التوجه أخطر على المواطنين السوريين من كثير من القضايا الأخرى.
عندما تخدش السطح، يصبح من الواضح أن بعض المشاكل الثقافية والهوية التي تستقطب السياسة لا تزال لها جذور اجتماعية واقتصادية أعمق تحركها وتغذيها. وبهذا المعنى، يجب وضع سياسات الهوية في سياق اجتماعي واقتصادي مناسب، وسيكون من قبيل الخطأ الفادح أن نراها منفصلة تمامًا عن الحقائق المادية، وفي القلب منها سياسات التوزيع التي ترسمها التوجهات الاقتصادية التي يتبناها الحاكمون الجدد في سوريا اليوم.
إن هوسنا بالإسلامية لن يجعل صراعاتنا أبدية ومستمرة فحسب، بل سيؤدي إلى مزيد من تسطيح الجدل العام وافتقاره إلى المقومات الأساسية من تعددية وتنوع، بما تتضمنه من قدرة على التفاوض والمساومة والوصول إلى حلول وسط.